لقد أدرك السكان الشيعة مبكراً، بمن فيهم الذين اختاروا مبايعة ابن سعود كحاكم مسلم بديلاً عن الحماية الانجليزية كقوة كافرة مستعمرة، أنهم خضعوا لاحتلال بوجه مختلف، وأنهم منذ اعلان قيام الحكم السعودي ما عادوا يملكون سلطة على أراضيهم وثرواتهم، بل لم يعودوا قادرين على ممارسة عباداتهم وطقوسهم وشعائرهم وفق مذهبهم.. فعشرات العوائل الذين تم التنكيل بهم لاسيما من الملاكين الذين خسروا الكثير من ثرواتهم وأراضيهم وحقولهم الزراعية، صارت تدغدغ صدورهم أحلام الخلاص، غير أن الشعور بالضعف الذاتي وغياب القيادة السياسية القادرة على تكتيل الطاقات وتحديد سبل وآليات العمل على تحرير الأرض، جعل من تلك التطلعات مجرد أماني لم يتم ترجمتها في برامج ومشاريع عمل على ارض الواقع.
لاحقاً وبعد اكتشاف النفط في أراضي الشيعة، وامتداد جسور التواصل بين بعض الشيعة المحليين مع التنظيمات والقوى السياسية في الدول العربية كالعراق ومصر ولبنان، تبلور حلم الخلاص وتطلعات القضاء على حكم ابن سعود في صيغ أكثر تقدماً، وهو الأمر الذي يفسر انخراط الأعداد الهائلة من الشيعة في الإقليم الشرقي من الجزيرة العربية في مختلف التنظيمات والتشكيلات السياسية التي ترعرعت في الجزيرة العربية منذ مطلع الخمسينات على اختلاف أيديولوجياتها وأهدافها.
في العقود المتقدمة من العهد السعودي سنشهد مصادرة فاقعة للتاريخ والتراث والفلكلور الشيعي، بل للثقافة الدينية الشيعية كما للحقوق الإنسانية والدينية والسياسية.. سنشهد غياب اسم القطيف مثلاً في نشرات الأخبار الجوية، وتغييراً لأسماء المناطق والشوارع ذات الصبغة الشيعية إلى مسميات غريبة عن طبيعة وثقافة وتاريخ الشيعة ومناطقهم. حتى يصل الأمر إلى اقتلاع المطار القائم في قلب القطيف وإلصاقه بمدينة الدمام الذي يبعد عنها أكثر من ثلاثين كيلو مترا، علماً أن التوسع الذي شهدته المنطقة عبر استنبات المدن الحديثة كالخبر والدمام لا يغير معادلات التاريخ وحقائق، فستبقى القطيف والأحساء هي المدن والحواضن الأصلية وما عداها تابعة لها وملحقة بها.. سنشهد تخطيطاً وسعياً محموماً لتغيير ديموغرافية التركيبة السكانية لمناطق الشيعة في محاولة لتذويب الترابط الاجتماعي وإدخال عناصر مغايرة وغريبة لتفتيت لحمة الجسد الشيعي. سنشهد حصاراً على التوسع العمراني وتخطيط خبيث لتقطيع أوصال القرى والبلدات عن الاتصال ببعضها البعض، ستمنع مخخطات سكنية بحجة أن الموقع مصنف كأرض نفطية، وفي المقابل ستطلق أيادي الأمراء وزبانيتهم الأقربين لتدفن بحار المنطقة في أكبر عملية تدمير للثروة البحرية في عموم الإقليم الشرقي.
ورغم هذا كله استمرت ولا تزال فكرة التخلص من حكم وسيطرة ابن سعود حلماً يراود أذهان الكثير من الشرائح والنخب وحتى عموم الناس، ولذلك فإن العمل المعارض بمختلف أشكاله لم ينقطع بصورة نهائية طوال فترة الاحتلال السعودي، حتى وإن شهد فترات كمون أو انحدار في حجم ونوع الأداء. فإذا كانت فترة أواخر السبعينات شهدت تحشيداً عارماً للجمهور وتوظيفاً مباشراً للشارع في العمل المضاد لنظام الحكم السعودي، فإن مطلع التسعينات شهد تحولاً دراماتيكياً نحو خيار المصالحة بين المعارضة الشيعية والنظام السعودي، الذي نجح ـ بكل أسف ومرارة ـ في كسب الرهان باقتدار حيث حول حركة المعارضة الشيعية إلى مجرد تاريخ وأمجاد يتغنى بها بعض القيادات والكوادر الذين أسسوا ونهضوا بتلك التجربة الفريدة والمتميزة والتي استطاعت تحقيق انجازات ما كان ينبغي لأحد التفريط بها في طرفة عين، ليشطب تاريخاً حافلاً بالعطاء والعمل والانجاز ومتوجاً بالتضحيات والدماء والمعاناة!!.
إلا أنه ورغم الشعور بالغصة والمرارة وفداحة الكارثة التي تمخضت عن حل التنظيم والحركة، فإن قطاعاً عريضاً من الشيعة لا يزال على قناعة راسخة بضرورة إعادة إحياء العمل المعارض وفتح جبهة المواجهة مع النظام السعودي المحتل حتى تحرير الأرض واستعادة كل الحقوق المصادرة والثروات المستلبة.
حقائق التاريخ والواقع:
لا أريد هنا الدخول في حلبة المحاكمة للذات الشيعية والكشف عن أخطاء هذا الطرف أو تقصير تلك الجهة، بقدر ما أريد دعوة أنفسنا جميعاً إلى إعادة النظر في مجريات ومعطيات واقعنا الراهن واستنطاق عقولنا عن مخرجات إستراتيجية تفضي بنا إلى تحقيق طموحاتنا وتطلعاتنا التاريخية المشروعة..
إن التطلع للخلاص من الحكم السعودي، والانفصال عن مملكة الفساد والظلم، يفترض أنه حلم الشيعة جميعاً على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم ـ بل حلم قطاع واسع من شعب الجزيرة العربية ـ كما أن أية خسائر تتكبدها جهة ما أو حركة ما هي خسائر للوجود الشيعي كله، وفي المقابل فإن أي نجاح وإنجاز فعلي يحققه أي طرف شيعي سينعكس تأثيره الإيجابي على المجموع الشيعي، ولن تختص به الفئة التي يحالفها النجاح لتحقيق إنجاز هنا أو هناك.
فإذا كانت تجارب المعارضة السابقة وكل التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الشيعي في الجزيرة العربية لم تفلح في دحر الاحتلال السعودي الغاصب للأرض والمقدسات، فهذا لا يعني أن نغفل بأن الشيعة نجحوا في تحقيق انجاز تاريخي متميز تمثل في بناء حركة دينية، سياسية معارضة، احتضنها وتبناها ودعمها مجتمعها بكل أطيافه..
وفي المقابل إذا كان النظام السعودي المحتل استطاع قمع وتحجيم حركات المعارضة الشيعية ـ كغيرها من التنظيمات الأخرى ـ ودفعها عبر خدعة المصالحة للذوبان ضمن الحياة اليومية لعامة الشعب، رغم تمسك بعض أفرادها وكوادرها بأنواع من النشاط الديني والثقافي والاجتماعي، ورغم محاولة البعض إضفاء الطابع السياسي المخاتل على أنشطته، التي لا ترقى إلى مستوى العمل السياسي الاستراتيجي الهادف للخلاص من الاحتلال السعودي أو تغيير معادلات التهميش والإقصاء وفرض خيار الشراكة الحقيقية في حكم البلاد والتمتع بثرواتها.
هذا الفشل وعدم النجاح في اقتلاع الكيان المحتل حتى الآن، لا يجب أن يفرض علينا خيار الاستسلام والخنوع والتسليم بالأمر الواقع، فالتطلعات الكبرى تتطلب تضحيات كبرى ومشاريع إستراتيجية واستثمارات ضخمة وزمناً طويلاً، وأقرب مثال هي تجربة الحكم السعودي نفسه الذي تم دحره وإنهائه مرتين قبل أن ينهض ابن سعود باحتلال أقاليم الشرق والحجاز ويقيم حكم الدولة السعودية الثالثة، في ظروف تاريخية وسياسية هيأت له فرص التحالف مع القوى الدولية وتحديداً بريطانيا ثم أمريكا لإقامة حكمه الغاشم.. إذن السعوديون أنفسهم خسروا المعركة التاريخية مرتين، وعانوا القتل والتشريد والأسر في حروبهم التأسيسية ضد السكان الأصليين في المناطق التي احتلوها، فلا شيء من المجد يمكن امتلاكه بالمجان، وتأسيس الدول يتطلب استثمارات ومشاريع إستراتيجية لا بد منها!.
هذا الاعتراف بفشل تجاربنا السابقة وقصورها ـ أياً كانت الأسباب فلستُ هنا بصدد مناقشتها ـ يُشكل حجر الأساس للوقوف على أرض صلبة لتدشين تفكير جماعي يستفيد من تجارب الماضي ولا يرتهن له، ويؤسس لمشروع استراتيجي ينهض بحاضرنا ويهيئه للانخراط في عمل حقيقي من أجل الوصول إلى تطلعاتنا المستقبلية.
الإصلاح الشامل لمكامن الخلل:
لا يمكن لحركة أن تنشأ في ظل مجتمع مفكك الروابط والأواصر، ولا يمكن لمجتمع ينغمس أفراده وسط الشهوات والملاهي المادية أن يحتضن حركة سياسية معارضة، تتطلب الكثير من العطاء والبذل والتضحيات على مختلف الصعد الحياتية.
لقد أدرك النظام السعودي هذه الحقيقة وعمل على ترسيخها كواقع قائم داخل البيت الشيعي، مستخدماً أقذر الوسائل وأخبثها لتفكيك وحدة المجتمع الشيعي وإضعاف روابطه، فدعم انتشار الانحلال الديني والأخلاقي عبر وسائله الإعلامية الموجهة وأبرزها الفضائيات، وزرع عبر أجهزته الأمنية في الشرطة والمرور وأمن الطرق عناصر غريبة على مجتمعنا ومنحرفة دينياً وأخلاقياً وشجعها على التواصل مع فئة الشباب وبالأخص المراهقين، وقد ثبت بالأدلة والبراهين وعبر رصد عشرات الحالات تورط هذه العناصر في إنشاء شبكات لترويج المخدرات والكحول ونشر الرذيلة والدعارة والمتاجرة بسلاح الجريمة والقتل.
هذا ما أدى لتضعضع بنية الأسرة كبوتقة أولية وركن أساس في بناء وحدة المجتمع وقوته، ثم لجأ النظام المجرم لزرع عشرات المتعاونين/الجواسيس فعلياً تارة وعبر اختلاق ونشر الشبهات المثيرة للشكوك تارة أخرى، وذلك لنزع الثقة والطمأنينة المتبادلة بين أفراد مجتمعنا، مما كاد يعدم روح التعاون والتكاتف فضلاً عن التحالف والاندماج في عمل سياسي واحد.
من ناحية أخرى أفرز تنامي الوعي الثقافي والسياسي لدى فئات المجتمع حالات متعددة من اختلاف الأفكار والرؤى والمواقف، الذي أدى لتنافر التيارات والفئات وتباعدها، بسبب قصور القدرة على إدارة الاختلافات الفكرية والسياسية، وأيضاً بسبب أخطاء البعض منا وممارساته غير المقبولة في الميدان الاجتماعي العام، ما ولد وحفز تبادل التهم والتشكيك في النوايا والاستهدافات، وحتى هنا لم يكن النظام بمنأى عن لعبته القذرة عبر استدراج بعضنا إلى تصريحات أو مواقف مثيرة للجمهور الشيعي، ما يثير البلابل وردات الفعل السلبية ضد هذا الطرف أو ذاك، فضلاً عن سياسة ضرب الأطراف الشيعية المتداخلة مع النظام بعضها ببعض عبر ترويج الشائعات بينهم أو فتح أبواب العلاقة مع مسئولي الدولة مع أشخاص واستبعاد آخرين، ليعود في يوم آخر لاستبعاد مَن قربهم وتقريب غيرهم وهكذا دواليك..
نحن بحاجة لتحصين البيت الشيعي أولاً، عبر ترسيخ الالتزام الديني والأخلاقي، وحماية الأسرة من عوامل التفكك والخلافات، واحتضان الشباب في مشاريع تنهض بمستقبلهم ومستقبل الطائفة.. نحن بحاجة إلى إعلاء كفاءة مجتمعنا في إدارة خلافاته الفكرية والسياسية وفق محور التلاقي عند المصلحة والأهداف الإستراتيجية واستبعاد الروح الانتهازية والفئوية.
أشير هنا أنه عند النظر إلى تجربة الثمانينات سنلحظ بأنه حين تصاعد حجم العمل الحركي، استطاعت قنوات التنظيم المختلفة اجتراح برامج حقيقية استقطبت فئات المجتمع من الرجال والنساء، وصقلت شخصياتهم وخبراتهم ووعيهم الديني والثقافي والسياسي، فساهموا في نشر الروح الدينية وإعلاء حالة الالتزام الأخلاقي، ورفدوا الحركة بجمهور واسع من الطاقات الشبابية في الداخل والخارج.. وفي المقابل فإن قرار حلّ التنظيم وإنهاء الوجود الحركي ساعد على توليد ردات فعل جاوزت المواقف السياسية إلى التخلي عن الالتزام الديني والسمو الأخلاقي والانضباط السلوكي، سواء ضمن تيارات الحركة أو لدى عموم أفراد مجتمعنا الشيعي المحلي.
ولمعالجة اختراق السلطة للمجتمع الشيعي سواء في الجانب الأمني عبر شراء ذمم العملاء والمخبرين، أو في الجاني الاجتماعي عبر علاقات التواصل المريبة بين فئات الشباب المراهق مع شبكات الإجرام والفساد التي يديرها أفراد الأجهزة الأمنية، فإننا بحاجة لتوعية مجتمعنا بتاريخه وتراثه ليدرك أنه شعب محتل وثرواته منهوبة وتاريخه مغيب وحرياته وحقوقه مصادرة، وأنه يخضع تحت حكم ظالم معتدي، لا يجوز أن يمنحه الثقة على أي مستوى كان..
إن علينا استحضار ثقافتنا الدينية المانعة للتواصل مع السلطان الجائر، لتعزيز ضرورة الانفصال النفسي والروحي والفكري عن نظام آل سعود وحكمهم بكل قطاعاته، لأنه مصداق للطاغوت الذي أمرنا بالكفر به.
http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&Id=172651إستمر الوجود الشيعي في السعودية محصّناً ضد اختراقات السلطة على نحو كبير حتى سنوات قريبة، فلم نكن نشهد مثلاً الوفود الضخمة من رجال الدين والوجهاء وهي تتسابق لمبايعة الملك!. وقد يصم البعض تلك الحقبة بهروب الشيعة عن التماس مع الحراك المحلي (الوطني!!) وبالانعزال والانكماش على الذات وتكوين جماعة مغلقة على نفسها،
فيما نجد أن مروجي هذه الرؤية ومسوقي اطروحة الانفتاح والتواصل مع الآخر، يزاوجون ويخلطون بين ضرورة التفاعل مع الأحداث والتحولات المحلية واتخاذ الموقف حيال ما يجري علينا ومن حولنا، وبين الحضور الساخن والفعّال والمجاني في المحافل والمراسم السلطوية وتنفيذ حملات الدعاية الداعمة لمشاريع وبرامج النظام، ما يعزز شرعيته في الأوساط الشيعية ويُسهل انخداع طيف من الجمهور الشيعي بأن تحولاً حقيقاً يحدث في علاقة النظام مع الشيعة، فيما المحصلة الواقعية تثبت أن طاحونة النظام تفتت أواصرنا بألف وسيلة وطريقة، وتخلخل تماسك البنيان الشيعي!!.
وقد انسحب هذا الخلط والمزج المبرمج والمقصود لتهيئة المزاج الشيعي ومناخ الجو الاجتماعي العام لتقبل الانتقال من الموقف الجماعي الملتزم بالقطيعة مع السلطان الجائر إلى هرولة دؤوبة في الاندغام مع النظام.. جرى الخلط على مستوى التنظير إلى المفاهيم الفكرية، فالسلوك الإيجابي المطلوب في الإنفتاح والتواصل مع الجماعات الأخرى الشيعية وغيرها، الاسلامية وغيرها، السياسية والدينية وغيرها، داخل البلاد وخارجها، يتحول إلى فعل انفتاح غير منضبط على السلطة الحاكمة، وتبني لإطروحات النظام الداخلية عبر حشد رموز الطائفة وفعالياتها ودفعها بل توريطها في المشاركة والحضور في محافل النظام المناسباتية، لنجد أن الطائفة بكل ثقلها قد انتقلت من موقع المعارضة والاحتجاج على سياسات الظلم وهضم الحقوق إلى مهرجانات التصفيق والمباركة حيناً وإلى مجالس الاسترجاء والاستعطاء والاسترحام حيناً آخر!.
لن نختلف حول حاجتنا كجماعة تخضع لسياسات التمييز والتهميش إلى قنوات اتصال مع النظام الحاكم، ولكن حجم هذه القنوات وتعيين أشخاصها المناسبين والمحصّنين والأكفّاء القادرين على تحقيق الأهداف المرجوّة للجماعة من عملية التواصل مع السلطات، ينبغي أن تخضع لعملية برمجة وضبط وتقنين، لا أن تتحول الطائفة بكل ثقلها وأطيافها إلى فعل الهرولة في سيرك الاندغام مع السلطة!.
ولا شك أن انفتاح الطائفة على القوى والتيارات والجماعات في الداخل والخارج، والتفاعل مع الأحداث والقضايا من حولنا، أمر لا غنى لنا عنه ومن شأنه أن يعزز خبراتنا ويصقل كفاءتنا ويحسّن أدائنا في معركة النضال المشروع ضد طغيان النظام وسياساته اللاإنسانية، ولا يجوز هنا أن تتحول بوصلة الانفتاح واتجاهه عن القوى والجماعات والتيارات لتوجّه نحو قوى النظام ومؤسساتها الأمنية والإعلامية و...الخ.
وبالعودة إلى التاريخ سنجد أن الأئمة شجّعوا بعض حوارييهم على الاستمرار في التداخل والتواصل مع السلطان الجائر بل والعمل في بلاطه والنموذج البارز علي بن يقطين ، فيما منعوا بعضاً آخر من مجرد حضور مجالس الحاكم أو مزاولة التجارة معه ببيع أونحوه، الأمر الذي يكشف أن ليس كل أحد يمتلك الحصانة والأهلية للنهوض بدور قناة التواصل مع السلطة، التي غالباً ما تلجأ إلى محاولة استدراج المتداخلين معها وإغرائهم ليتحولوا من ممثلين لمصالح وقضايا مجتمعهم، إلى ممثلين لمصالح السلطة وأدوات لتمرير سياساتها.
وأحسب أن هذا الوعي الشيعي تاريخياً هو المسؤول عن تعزيز الموقف المبدئي والقيمي لدى علماء الشيعة قاطبة في مقاطعتهم للسلطات الجائرة والنأي بأنفسهم عن مخالطة بلاط الحكام الظالمين، حين يجدوا أن مجرد زيارتهم للحاكم أو زيارته لهم ستمنحه شرعية وتهيء الجمهور للقبول به والرضا عن سياساته وممارساته. وهذا لا ينفي انخراط بعض علماء الشيعة في عهود مختلفة في تشكيلة الحكم أو دعم الحاكم حين يضمن ذلك حفظ مصالح الجمهور والشعب.
وقد تقبّلنا فيما مضى ومنذ عقدين تقريباً مساعي التواصل والانفتاح لرموز وفعاليات شيعية متعددة على مؤسسات النظام وبالأخص الأمنية، لكن لم تفضِ تلك السنوات الطويلة إلى تقدم ايجابي ملموس، بل العكس هو الصحيح، فقد صعّدت السلطة قمعها وأمعنت في تنفيذ سياسات التهميش والإذلال ومصادرة الحقوق في ظل صمت مطبق من الجميع تقريباً، ويبدو أن عين النظام رصدت بدقة دخول القوى الشيعية سباقاً مارثونياً في التنافس المحموم على نيل حظوته ورضاه، ما دفعه إلى التعاطي مع الشأن الشيعي بصلافة مطمئناً غلى غياب رد الفعل المعارض!.
التنظيم أداة رقابة وتحصين
لقد عزز الوجود الحركي المعارض حصانة المجتمع الشيعي ضد اختراقات النظام، بالتزامن مع فاعلية الترويج الثقافي والتربية الفكرية والروحية للمنابر الجماهيرية لكافة التوجهات الشيعية والتي عملت مبكراً على ترسيخ مبدأ القطيعة مع الحاكم الجائر، بل ونبذ وعزل ومقاطعة المتعاطين معه والمتّصلين به، ما كان يفرض على كل مَنْ تسوّل له نفسه خيانة مجتمعه أو المتاجرة بمصالح الطائفة أن يحسب ألف حساب إلى مقاطعة المجتمع له بل وفي حالات وصلت القطيعة إلى الأسرة والعائلة، وفي حالات أقل وصل الأمر إلى انفراط عقد الأسرة وطلب الزوجة الطلاق، فيما يسرح ويمرح اليوم عملاء السلطة من الجواسيس والخونة، وكذلك المتاجرين بقضايا الطائفة ـ ولا أقصد كل من يتواصل مع النظام، ففيهم رجال أفذاذ مخلصين ـ دون خشية أو وجل من رقيب أو حسيب.
فقد أدى غياب المؤسسات الحركية والتنظيمية، وفقدان مراكز التخطيط والتفكير الاستراتيجي، وعدم توافر خطط عمل واضحة ومنظمة، لولادة حالة من التخبّط والقاء الحبل على الغارب، ما أفسح المجال أمام كل الأطراف والأشخاص لارتجال المبادرات الفردية والفئوية القاصرة والضعيفة بدليل نتائجها السالبة والفارغة..وساهم ذلك في خلق الفرصة أمام النظام للتلاعب بالقضية الشيعية إعتماداً على استثمار التناقضات الداخلية بين الأطراف الشيعية نفسها، أو عبر استغلال الأفراد الضعفاء وعياً ومحدودي الخبرة والكفاءة.
فالاصرار على الاستمرار في عملية التواصل والعلاقة مع السلطات رغم عدم تحقيق نتائج وإنجازات فعلية تنعكس إيجاباً على أوضاع الطائفة، شجع ـ ربما دون قصد ـ بعض الباحثين عن الشهرة والمصلحة من ضعاف النفوس لاستغلال حالة انكسار الحواجز النفسية والاجتماعية واستسهال عملية التداخل مع النظام الحاكم، للارتماء في أحضان السلطة، وقد شهدنا كيف تسابق بعض المحسوبين علينا ممن لا يملكون أدنى مقومات الوعي والنضج فضلاً عن متطلبات تمثيل الطائفة إلى القيام بزيارات التهنئة للنائب الثاني في أعقاب تعيينه، في تزامن مع الحملات الشرسة للقوى الأمنية المختلفة وفي أكثر من مدينة ومنطقة بهدف سحق كرامة الشيعة وكسر إرادتهم، كما في الأحساء والخبر والدمام والعوامية وصفوى.
إن وجود مؤسسة حركية وتنظيم جامع للحراك الشيعي سيخلق وحدة القرار فيما يتعلق بقضايا الجماعة، ومن شأنه أن يضع كل مبادرة مهما صغرت أو كبرت ضمن خطة استراتيجية مدروسة، ويوظفها في إطار الحراك العام لتؤدي الغرض المطلوب، أو يؤجل القيام بها أو يمنعها نهائياً، ما يفوّت على النظام إستغلال المبادرات الفردية والفئوية المرتجلة. لقد تسبب غياب الوجود التنظيمي إلى انفراط عقد الجماعة القادرة على التفكير والتخطيط المستقبلي واستثمار الفرص والأحداث، وكشف المجتمع الشيعي أمام السلطة لتعبث به عبر ضعاف النفوس أو محدودي الوعي والخبرة والكفاءة السياسية.
وقد رأينا كيف تم تبادل الاتهامات باختطاف قرار الطائفة في أعقاب انقسام وتعدد المواقف تجاه أحداث البقيع الدامية، ولكن أحداً لم يعبأ بالتفكير في السؤال عن أسباب ولادة تلك الحالة، فالمطالبة بوحدة القرار والموقف يستلزم بناء جسد حركي متماسك قادر على استيعاب المجموع الكلي للقوى والفعاليات الشيعية، كي يستطيع المجموع المنظم صياغة رؤية مشتركة وموحدة تنتج موقفاً صريحاً وواضحاً وقراراً صلباً تلتزم به الجماعة.
وقد رأينا كيف استطاعت المؤسسات الحركية في الثمانينات المحافظة على وحدة الموقف الشيعي، وحفظ الكيان من الذوبان أو الاختراق، فلم تبرز على السطح ظواهر تناقض وتضارب ذات بال، لاسيما في السنوات المتقدّمة من عمر التنظيم، أي بعد تجاوز صدمة الولادة ومرحلة التأسيس المفاجئة.. وقد تكفّلت قنوات إتصال محددة مع الفعاليات والوجودات التي لم تكن منخرطة في التنظيم الحركي تأمين قدر كبير من التنسيق والتفاهم وتبادل الرأي فضمنت الوصول إلى حالة من التوافق على المشتركات الكبرى.
إن غياب المؤسسة التنظيمية أفرز انعدام الجهة الرقابية التي يفترض بها مراقبة أداء وتدقيق إنجازات الاطراف المتواصلة مع النظام، والتي تكون مسؤولة ـ عادة ـ عن قرار الاستمرار في التفاوض أو إيقاف العملية التصالحية وإغلاق ملفها إلى حين أو إلى الأبد، وبالتالي نضمن عدم التمادي في التواصل المجاني مع النظام، أو الانحدار بالمطالب عن السقف المحدد سلفاً.
ثمة فرق جوهري لا نغفله بين التواصل مع السلطة إنطلاقاً من محور فردي أو فئوي محدود، يتطلع لتحصيل احتياجات ومطالب عابرة أو بسيطة ومحدودة، حيث لا يكون بإمكان الفرد أو الفئة المجتزأة التي لا تملك امتداداً جماهيرياً فرض أجندة كبرى واستراتيجية، فرق بين ذلك وبين التواصل انطلاقاً من قاعدة تنظيمية جماهيرية تدرك ما تريده الجماعة الكبرى أي الطائفة كلها، والتي تضبط علاقتها مع النظام وفق أجندة محددة سلفاً، وهو ما يُشكّل رقابة ضاغطة في لا وعي المتفاوض/المتواصل مع النظام أنه مطالب بانجازات على مستوى مطالب الحركة والجمهور، وعدم تفويضه بتقديم أية تنازلات مجانية أو دون تنازلات حقيقية من قبل النظام.
وبكلمة جارحة ومؤلمة.. فإن تحول الجسم الشيعي في الجزيرة العربية من حركة مؤسسية منظمة إلى أفراد مبعثرين وفئات متطاحنة فيما بينها، هيأ الشيعة كلقمة سائغة التهمها النظام المتوحش على مهل وببرودة أعصاب، وفي صمت ورتابة مريبة وفاجعة!.
خذوا مثلاً.. النظام الحاكم وفي خطة تدمير مبرمجة: يستنزف ثرواتنا، يُدمر بيئتنا الزراعية والبحرية، ينقل خيرات أراضينا لمشروع الخزن الاستراتجي في الرياض ـ سرقة في وضح النهارـ، يُغلق مساجدنا، يحاصر ويطارد علماءنا، يعتقل أبناءنا وأخوتنا، يذبح ويقتل شبابنا في السجون وآخرهم الشهيد ميثم البحر طيب الله ثراه، ونحن سادرون في الصمت، لا صوت ولا ردة فعل ولا آهة ألم ولا صرخة استنجاد، وحين تفكّر ثلة شبابية هنا أو هناك التعبير عن رفضها نحاصرها نحن قبل النظام وزبانيته!!.. ترى أكان هذا سيحدث لو أننا نملك تنظيماً جماهيراً صلباً يتمتع بدعم واحتضان حقيقي من قبل الطائفة كلها؟!!.
http://www.abna.ir/data.asp?lang=2&Id=172653
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق